الغوطة الشرقية – دمشق – سورية
بعد منتصف ليلة الأربعاء 21 / 08 / 2013
فقط ما يُقارب 10 آلاف مُصاب، تشنج العضلات يملأُ المكان، الكلُّ ينتفضون، يتساقط الناس كأوراق الشجر، هناك نيامٌ لم يستيقظوا .. ماتوا هادئين، وبعضهم استيقظوا ولم يستطيعوا الخروج .. ماتوا مُحاولين، أمٌ كان لابد أن تختار اثنين من خمسة أبناء، حملتهم وخرجت بهم، لكنها حملت الموتى، على مداخل البيوت، على أطراف الطرقات، الجثث المختنقة هي عنوان المدينة، الرغوة التي تخرج من الأفواه ستُغرِقُ الشوارع، حدقات الأعين تضيق أكثر فأكثر، تميل العيون للون الأزرق، من حاولوا إنقاذ المصابين أُصيبوا .. بعضهم نجا، أحد أولئك قال:
قبل أن أصل إليهما ارتميتُ، حاولتُ قبلهما أن أبقى متماسكاً عدة مرات ولكن المناطق كلها كانت تعجُّ بالمصابين فقد انتقل الغاز إلى كل البلدات المحيطة بـ زملكا وعربين وجوبر، وكان القصف مستمراً، لم يكن في “زملكا” غير نقطتين طبيتين إحداهما تعرضت للقصف أيضاً، من بقيَ حياً كان عليه أن يصعد إلى الطوابق العلويّة، ولكن القذائف بدأت تنهال على الطوابق العلوية للأبنية وتليها الرشاشات الثقيلة وراجمات الصواريخ .. إنه حكمٌ بالإعدام الجماعي، على باب أحد الأبنية لم يكن قد بقيَ لدينا غيرُ “كمامةٍ” طبية واحدة، أعطاني إياها أحد المسعفين كي أدخل لأتفقد من في البناء، لا وقت لتطرق الباب أو لتصرخ، كلهم كانوا نائمين .. وبقوا يغطّون بموتٍ عميق، خرجتُ مذعوراً أحمل بيديَّ عبوات سوائل ركبّها المسعفون على عجل، وبعض من المضادات كالاتروبين و ديكسون، لم أكن أعمل في المجال الطبي ” كمسعف” ولكن حجم الفاجعة يستدعي تدخل كل من يستطيع التنفس أكثر، على باب البناء كان المسعف “أبو صالح” قد ارتمى وبدأ يتشنج حاولتُ بالماء والبصل فعل شيءٍ ما ولكن بدا لي أنها آخر سهرة بيننا قضيناها قبل قليل، وأخذته السيارة نقل المصابين إلى النقطة الطبية علّها تدركه، لحظات التفكير كانت أقل من أن تأخذ قراراً، ركضتُ إلى إحدى الشقق، هناك نَفَسٌ ما يمكن إدراكُه، حاولت بالمضادات والسوائل، ثم وضعت للمصابة الكمامة وأعنتها حتى تخرج إلى الطوابق العلوية، خرجتُ من الشقة ودخلتُ إلى أخرى لكنني لم أستطع المقاومة أكثر كانا أمامي على الدرجات، الطفل ساقطٌ من يديها وهي تحاول الوصول إليه لكنها متشنجة وهو ينتفض، آخر ما شاهدته تلك الرغوة التي بدأت بالفيضان حاولتُ الصراخ .. لم أستطع شعرتُ أنني أصرخُ في جوفي.
“أبو نضال .. أبو نضال” .. كنت أسمع نداءهم، “سمعان .. سمعان” كان لساني أثقل مني وعيناي قطعتا لهيب، شعرتُ بصخورٍ جاثمةٍ على صدري وقصبتي الهوائية كانت أضيق من إبرة، ” رح قوم بس مو حاسس برجليي” تشنجٌ تام الأركان سيطر على أعضائي ما لبث أن بدأ يخف بعد الحقن والسيرومات، رويداً رويداً كنتُ أرى المشهد حولي، مئاتٌ من الجثث عشراتٌ من الباحثين بين ركام الأجساد، رائحةٌ كالطعام الفاسد كانت كفيلة بقتلنا عدا استنشاقنا للسلاح الكيماوي، كنت أتحرك بصعوبة بالغة لا أستطيع السيطرة على أطرافي كانت تسيطر هي علي تنتفض متى تشاء وتهدءُ متى تشاء، خرجتُ من النقطة الطبية التي تحولت إلى مكان حشرٍ للشهداء وقد أوشك الصبح، ولكن أزيز الطائرات لم يهدأ وراجمات الصواريخ وقذائف الهاون تتسابق إلى الناس، تماماً ترى كيف يحاولُ الإنسان الحياة ومقتله في تنفّسه، أن يكون الهواء هو خصمك .. تلك أصعب المعارك.
في الشوارع جثثٌ لنساء خرجن من بيوتهن لأول مرةٍ بملابس نومهن، سائقو سياراتٍ حاولوا نقل المصابين ولكنهم ماتوا خلف مقاود سياراتهم، أطفالٌ لا يفصل بين جثثهم وجثث ذويهم غير بعض خطوات، شوارع من الموت، كانت الجثث كثيرةٌ جداً، كيف ستدفنُ كلها دفعة واحدة؟ بدأت الأرقام توضع على جباه الشهداء واحداً .. واحداً قاربوا 1500 شهيد، الكل يبحث بين الجثث، أكثر الناس صبراً امرأةٌ كانت تتأكد أنهم ماتوا تتأكد أن لا أمل لأي حياةٍ في أي جسد، كيف سندفنهم كلهم دفعةً واحدة؟ بدأنا بوضع “الثلج” على الجثث، فبرادات الموتى ـ إنْ وُجِدَتْ ـ لن تتسع لهم جميعاً.
هنا لا أشلاء .. لا دماء .. الوجوه واضحة مع بعض انتفاخاتٍ ملونةٍ في الجسم فقط، كان الاستعداد لهجماتٍ أخرى من هذا النوع هو الهاجس الأكبر لابد من رصد ذخيرة طبية، فمن يواجه هذا السلاح بهذه الأدوات، 1500 شهيد من أصل 10 آلاف إصابة، أي معجزةٍ هذه؟ يمكن ذلك عندما يستشهد معظم الكوادر الطبية.
عَبْر الأقمار الصناعية كنا نتحدث ـ عادةً ـ قبل أن أخلد إلى النوم، تتأكد أنني لم أزل حياً، بيني وبينها بعض شوارع فقط، دمشقُ ليست بعيدة ولكنها غريبةٌ تماماً عمّا يجري في الغوطة الشرقية من حصارٍ وقصفٍ ـ ولو سمعت ذلك على نشرات الأخبار ـ غريبةٌ تماماً عن الموت اليومي، ثم فجأةً “القبضات” كلها تصرخ “ضربو كيماوي لك ضربو كيماوي” وحتى المآذن كانت تصيح لا لصلاةٍ ولكن لكي تنبّه الناس أن الموت أتاهم عبر الهواء، حالة الفزع أصابت الجميع، فالكل مكلّفٌ بمحاولة الإنقاذ حتى ولو قضى فيها نحبه، فمن سينقِذُ من؟، النائمون هم الأقل ألماً، وكثيرٌ منهم ناموا جياعاً.
عندما عدتُّ كانت قد تركت لي رسالةً: “شو نمت متل العادة وأنت عم تحاكيني؟” لم أنتبه هل انقطع الاتصال أم لم يزل، ولكن كتبتُ لها فقط: ” كنّا نختنق”.
على أحد الحواجز المكلّفة بحصار الغوطة وأثناء محاولة أحد المسنين الخروج، يقول له العسكري ـ بخبث ـ : ” شو نظّفنا زملكا وما حولها” قال المسن : ” إيه والله خلصتونا من ضجة الولاد وعجئتهم”، واختلطت دمعة أحدهما بضحكة الآخر.