الدبلوماسيّون يكرهون التنبؤ. قال تشرشل ذات مرّة إنّه يُمكن تجاهل كل صفحة من نصائح وزارة الخارجيّة، لأنّها تميل إلى أن تكون على شكل “من جهة” و”من جهة أخرى”. والملفّات ملأى ببرقيّات ما قبل الانتخابات التي تتوخّى الحذر.
ولذلك أسباب وجيهة. فنحن لا نُحبّ أن نكون على خطأ. وكلّما درسنا السياسة الدوليّة، كلما أدركنا إلى أي حد أنّها غير قابلة للتنبّؤ نهائيا.
وبالتالي فإن هذه المدوّنة ليست كرة بلّوريّة لتنبؤ المستقبل. لكن – وسط التشاؤم قصير الأمد – يحدثني ناس كثر عن مستقبل لبنان. فتساءلت عمّا كان خَلفي ليكتب في هذا التقرير إثر الاحتفالات بالذكرى المئوية في لبنان في العام 2020. إليكم إحدى الرسائل المحتملة.
“عزيزي وزير الخارجيّة،
لقد مثلتكم اليوم في احتفالات الذكرى المئوية في بيروت، بحضور عدد كبير من القادة الدوليّين. تجذب ثروة لبنان الجديدة، نتيجةً لكميّات الغاز الهائلة في المياه الاقليمية، اهتمامًا كبيرًا. وقال لي رئيس منطقة اليورو إن لبنان غدا سنغافورة مع تزلّج أكثر أو غدا قطر مع ثقافة أوسع.
كان أوج هذه الاحتفالات مشاركة عدد كبير من الموسيقيّين والشعراء الموهوبين ومنتجي الأفلام. فمنذ نهاية احتلال سورية، برز لبنان مجدّدًا على أنّه مركز النهضة الثقافيّة العربيّة، كما تعلمون، بالنظر إلى العدد الكبير من الأفلام وأشرطة الموسيقى الرائجة في المملكة المتحدة.
وكان الرئيس السوري المنتخب حديثًا ضيف شرف. ومعاهدة الاعتراف والتعاون التي وقّع عليها كل من لبنان وسورية في العام 2014 أسست علاقةً متساويةً بين البلدَيْن. وتمّ ترسيم الحدود ولعبت الشركات اللبنانيّة والقادة المجتمعيّون دورًا أساسيًّا في إعادة إعمار سورية إثر الحرب الأهليّة المُريعة التي تعرّضت لها بين العامَيْن 2011 و2013.
تحدّثْتُ إلى العديد من نواب البرلمان على هامش اللقاء. غالبيّتهم اليوم دون الأربعين، وهم من جيل ما بعد الحرب الأهلية. وعاد أشخاص كثر إلى بلادهم من وظائف شغلوها في الخارج للمساعدة في قيادة الدولة. في الماضي، تحدّثنا عن هجرة العقول. أما اليوم فنشهد اكتساب العقول. وسمحت التكنولوجيا الجديدة للشتات اللبناني بخلق أكثر شبكات الأعمال العالميّة ديناميكيّةً، مع كون بيروت كمركز بين أوروبا وآسيا. وفي خطابها، قالت الرئيسة (وهي واحدة من أوائل المواطنين الذين يرتبطون بعقد مدني مع شريك حياة من طائفة أخرى) إنّه مع انتقال السلطة العالميّة إلى الجنوب والشرق، فإننا على عتبة حقبة مشرق جديد.
لا يزال اتفاق بيروت المبرم في العام 2014 فاعلاً. وبالطبع لن يكون لبنان هو لبنان الذي نعهده من دون نقاش حاد حول التمثيل السياسي. لكن تشعر غالبيّة الأطراف بأن مصالحها محميّة. بالنسبة إليّ، كانت اللحظة الحاسمة رفض قادة لبنان عروضًا دوليّة للإشراف على “تعديل” تسوية لبنان الدستوريّة. وإصرارًا منهم على أن تكون هذه العمليّة بقيادة لبنانيّة، أنهوا الحلقة المفرغة للرعاية والتدخل الخارجيَّيْن. وللمرة الأولى، أتت التسوية الدستوريّة لبنانيّة حقًّا.
كان النقاش السياسي محدودًا في الحفل نفسه، وإن كانت السياسة حيويّةً اليوم مثلما كانت في أي وقتٍ مضى. والخط الفاصل الأساسي هو ما يجب فعله بالواردات من الغاز. يريد حزب لبنان الواحد (الوسط اليساري) أن يوزع الفوائد على كل مواطن لبناني، بينما يُريد حزب الأمة الواحد (الوسط اليميني) الاحتفاظ بثروة سياديّة. التقيْتُ باثنين من نواب البرلمان الأكبر سنا، وهما الأواخر ممن مازالوا يستخدمون شعاري 8 آذار و14 آذار. والحزب الوحيد الذي لا يزال يحتفظ بقاعدة طائفية خسر مقعده الأخير في انتخابات العام 2017، وإن كان مجلس الشيوخ لا يزال يتصرّف على أنّه حامي مصالح كافة الطوائف.
وحسب البروتوكول الذي ينص على الترتيب الأبجدي، جلس سفيرا إسرائيل وإيران إلى جانب سفير بريطانيا العظمى، وهما في حوار مبتهج. لا شك في أن اتفاق السلام للعام 2015 بين إسرائيل ولبنان يُشكّل ركنًا أساسيًا في فورة الغاز الاقليميّة. وتمّ ترسيم الحدود في الجنوب، مع التزام الطرفَيْن بعدم الاعتداء على الطرف الآخر. ويعني تأسيس دولة فلسطين في العام نفسه، إثر جهود مكثفة بذلتها إدارة الولايات المتحدة، عودة لاجئين فلسطينيّين كثر من لبنان. ويزور السائحون الغربيّون اليوم إسرائيل وفلسطين وسورية ولبنان في الرحلة نفسها، وزار عدد كبير من المسيحيّين والمسلمين من لبنان القدس في العام الماضي.
خرج شعب لبنان بكل طوائفه للاحتفال، ما يذكّر بشدّة بالمجموعات المختلفة التي جعلت من هذه الأرض موطنا لها على مر القرون. وبعدما دفع لبنان في الماضي ثمن الانقسامات الطائفيّة، غدا اليوم رمزًا للتعايش، وتأتي بشكل منتظم وفود لزيارته من دول تشهد نزاعات لأخذ العبر من تجربته. وكان من بين القادة الحاضرين السيد حسن نصرالله الذي أكّد على أن حزبه سيبقى ملتزمًا التزامًا صارمًا بعمليّة الإصلاح وأيضا – وفق ميثاق عام 2014 – بنبذ العنف ووضع مصالح لبنان قبل مصالح أي دولة خارجيّة. وكما هي الحال في إيرلندا الشماليّة، تجدر الإشارة إلى الشوط الكبير الذي قطعته عدد من الميليشيات السابقة بالتزامهم بمشروع وطني حقيقي. ونتيجةً لذلك، يتمتّعون اليوم بقوة سياسيّة أكبر. وسار الحرس الوطني، بما في ذلك محاربون سابقون كثر من المقاومة، بكل فخر إلى جانب بقيّة عناصر الجيش اللبناني، الذي عاد عدد كبير منهم من مهمّات حفظ سلام في قارات مختلفة.
وصلت إلى الحفل على متن قطار المدينة الجديد، أحد المشاريع الأبرز في لبنان في العام 2020، وهو مشروع بقيادة القطاع الخاص. وأصبحت بيروت اليوم أول وسط مدينة في العالم خالٍ من السيارات، وموّلت عائدات النفط والغاز إصلاح الشبكة الوطنيّة للتيار الكهربائي، فأمست مولّدات الكهرباء من الماضي الغابر. وتبقى جهود اكتشاف الآثار القديمة وترميمها في قلب الفورة السياحيّة الساطعة في السنوات الأخيرة. وباتت بيروت اليوم المدينة الأولى التي يختارها البريطانيّين لتمضية عطلتهم فيها، ولا شك لدي في أن العديد سينضمّون إليّ في “سكاي بار” الليلة لمتابعة الاحتفالات.
لبنان في عيده المئة مكانا رائعا وجميلا وخلاّبا ومتنوّعا وصامدا ومليء بالآمال والمواهب. وإنني أتطلع للزيارة الملكية القادمة إلى لبنان.
مع تحياتي،
السفير البريطاني، بيروت
ملاحظة: سررت لأن أرى سلفي طوم فلتشير يفوز بسباق 100 م و200 م في الألعاب الأولمبيّة لهذا العام.”
ضرب من الخيال؟ أو من السذاجة؟ هذا رهن بكم. أخبرونا عن رأيكم #Leb2020