Site icon Foreign, Commonwealth & Development Office Blogs

المصالحة والتعايش: خمس أفكار تقدمها إيرلندا الشمالية إلى لبنان

بالأمس، انضممت إلى مؤتمر مُلهِم حول المصالحة والتعايش، بقيادة الجمعية الغير الحكومية “أديان –  المؤسسة اللبنانيّة للدراسات الدينيّة والتضامن الروحي”. وقد ذكّرني ذلك بقول مارغريت ميد العظيم “لا تستخف أبدًا بقوّة مجموعة صغيرة من الأشخاص الملتزمين بتغيير العالم. ففي الواقع، هذا هو الشيء الوحيد الممكن”.

تُعتَبَر بيروت المكان المناسب لإجراء هذه المناقشة، ففي أفضل حالاتها،  هي نموذج عن التعايش وسط التعدّدية. أمّا في أسوأ حالاتها، فهي تذكير مأساوي للصراع وسط التعدّدية. كما وأضيف سببًا آخر وهو احتمال توافق مختلف الطوائف اللبنانيّة المُمثَّلة في المؤتمر عليه، ألا وهو مبدأ “حبّ القريب”.

لقد طُلِبَ منّي أن أتطرّق إلى دروس إيرلندا الشمالية، فاقترحت خمسةً وهي:

– لكلّ شخص قصّة يجب فهمها وإعطاؤها حقّها. كان جدُّ جدّي بروتستانتيًّا ملتزماً وكاهنًا صارمًا في بلفاست، اغتاظ غضبًا لدى فقدان البروتستانتيين وظائفهم لصالح الكاثوليكيين بعد الحرب الكبرى. وكان والد جدّي قائد شرطة ألستر الملكية، وهي مهنة كانت ولا تزال الأصعب والأكثر نكراناً للجميل في مجال الشرطة. تزوجتُ بامرأة كاثوليكية من الجنوب الجمهوري لايرلندا،  قاتل أجدادها في الجانب الآخر. عملتُ كمستشار إيرلندا الشمالية لرئيسَي وزراء، فرافقتُ غوردن براون خلال أسابيع من المفاوضات المضنية والمرهقة والمُغضِبَة أحيانًا بين الجمهوريين والاتحاديين. كما رافقت ديفيد كاميرون فيما كان يُعدّ ردّه غير العادي على تقرير “سافيل” الخاص بالأحد الدامي. ولا شك في أن التفاصيل مهمّة، كما القدرة على تحدي الأفكار المسبقة. ولكلّ شخص رواية، و هذه الروايات يجب سردها وسماعها ومشاركتها إذا ما أردنا مستقبلاً مشتركًا. فعند نقطة معيّنة، يحتاج لبنان إلى تبادل قصصه،  مهما كانت فجة و صريحة.

– عليك تحديد رؤية مشتركة، وعلى القادة أن يتحلّوا بالشجاعة للعمل من أجل تحقيق تلك الرؤية. في إيرلندا الشمالية، تحوّل الرأي العام إلى نبذ العنف. وكان هذا التحوّل رحلة، لا مجرّد حدث. أظنّ أنّ اللبنانيين قاموا برحلة مماثلة منذ الحرب الأهلية، ممّا يُعتَبَر سببًا كافيًا لتماسك لبنان متحدّيًا المنطق وأولئك الذين سعوا إلى تقسيمه بغية تحقيق مكاسبَ سياسية أو طائفيّة محدودة. ولكن، برأيي، يجب أن تكون نقطة الانطلاق الهامة هذه مصحوبة برؤية أوضح لما يمكن وينبغي للبنان أن يكون عليه في المستقبل. أحرص على تطوير مناقشة حول لبنان في العام 2020، و اعتقد أنّنا من خلال ذلك سنجد ،أنّ المجتمعات المختلفة ستسعى إلى التوحّد أكثر من الانقسام، كما كانت الحال في إيرلندا الشمالية. وعلى ضوء هذه الرؤية، سيفشل مَن يحاول اللجوء إلى الإرهاب لتحطيمها. بعد “اتفاقية الجمعة الحزينة”، وقعت تفجيرات أوما، في أسوأ هجوم إرهابي في إيرلندا الشمالية وتزعزعت الثقة في العملية، ولكن لم تكسرها لأنّ الناس كانوا مدركين بأنّ الموضوع على المحك أكبر من ان يقتصر على مجرّد حلقة مفرغة من الانتقام والثأر.

– عليك أن تكون على استعداد للجلوس مع عدوّك. في إيرلندا الشمالية ، غالبًا ما كانت تلك اللقاءات معذّبة ومؤلمة، و تنطوي على مخاطرَ سياسيّة كبيرة وتنازلات غير مريحة. وقد  تطلّب الامر وقتاً كي يرى الأعداء اللّدودون الإنسانية المشتركة لدى الذين حاربوهم. وكان علينا أن نتجنّب توقّعات أو ظروفٍ غير واقعية – لو كنّا قد طالبنا بنزع سلاح الجيش الجمهوري الإيرلندي قبل إمكانيّة بدء المحادثات، فقد نكون في حالة حرب معهم حتى اليوم. تتطلب هذه العملية الوقت والإبداع والصبر و قدرة على تبلّد الشعور . وتتطلّب أفرادًا غير عاديين ومُلهمين. إلتقيت مؤخرًا امرأة إنكليزية كانت تعمل على تبادل الدروس حول المصالحة. وسألتها كيف أصبحت تشارك في هذه العمليّة، فأجابتني أنّ والدها قد قُتِلَ في تفجير للجيش الجمهوري الإيرلندي في برايتون. التفتُّ إلى الرجل إلى جانبها، الذي سافرت معه وستشاركه المنبر قريبًا،  طالبًا منه أن يروي قصّته فقال “أنا كنت المُفَجِّر”.

– لا بدّ من حافز للسياسة. إذا أردت أن يلقي الناس سلاحهم ، عليك أن تكون قادرًا على أن تُظهر لهم أنّهم قادرون على ضمان أهدافهم الشرعية بشكلٍ أفضل عبر عملية سياسية. وفي هذا الصدد، على الرغم من أنّني أفهم القلق الذي يشعر به البعض، أظنّ أنّ انخراط حزب الله المتزايد في سياسة الدولة في لبنان مرحبّ به. فهم يتمتّعون بصوت وناخبون . وبالتالي، يجب أن يُخَصَّص لهم مقعد على الطاولة. ينبغي عليهم وعلى الأطراف الأخرى في لبنان تأمين أهدافهم السياسية عن طريق عمليات مشروعة بدلاً من العنف أو التهديد بالعنف. لا شيء يُضاهي ان تكون بالحكم لتدرك التحديات التي تواجه الحكومات، مقارنةً مع الهامش المريح الذي تتمتّع به المعارضة.

– أخيرًا، و بالرغم من الحاجة الى دعمٍ خارجي لتجاوز الطريق المسدود عند النقاط الرئيسة ، يجب تملّك العملية في نهاية المطاف، لربّما لم تكن المملكة المتحدة قادرةً على الجلوس مع شين فين من دون ضغط من الأميركيين الذين قد يرون أنّنا بحاجة إلى تغيير إطار الأفكار. لم يكن الجمهوريون والاتحاديون في إيرلندا الشمالية قادرين على العمل معًا كما فعلوا من دون ضغط جماعي تُمارسه الحكومتان البريطانية والإيرلندية. عندما تغيب الثقة، تبرز الحاجة إلى حكم محايد سواء للتأكّد من أنّ الأسلحة قد دُمِّرَت، أو للتفكير الخلاّق بالمشاكل عندما يريد الطرفان إفشال المحادثات، أو مجرّد تأمين مساحة محايدة وعدم التدخّل. ولكن، في النهاية، لاحظنا أنّه، في ايرلندا الشماليّة، على الأشخاص المتورّطين والمجتمعات التي يمثّلونها أن يتطلّعوا إلى ذلك أيضًا وأن يتملّكوا هذه العمليّة.

لا شكّ في أن الحالات تختلف عن بعضها البعض ويجب ألا نبالغ في أوجه الشبه بين إيرلندا الشمالية ولبنان. لكنّني آمل أن نبذل جهودًا إضافيّةً في السنوات المقبلة لتطوير هذا الحوار وتبادل الخبرات والأفكار، لا سيّما حول طرق عمليّة لتثقيف الشباب حول التعايش، وهو استثمار في مستقبل لبنان كمجتمع متسامح ومتنوّع.

ما عليك سوى أن تتوقّف عند أنقاض تسع عشرة حضارة في مدينة جبيل كي تذكر أن تنسى كلّ ما كنت تخال أنّك تعرفه. لكن، ما أعرفه هو أنّ لبنان يستحقّ القتال من أجله، لا عليه . كلّ شيء ممكن بفضل التعليم والرؤية والقيادة والصبر وبفضل أشخاص كاللذين قابلتهم في المؤتمر.

Exit mobile version