الفساد هو الوباء الذي سقطت ضحيةً له دولٌ تحاول النهوضَ من الفقر. سياسيون و مسؤولون حول العالم يضعون أيديهم في خزائن المال العام لسرقة ثروات بلدانهم. تصرفاتهم تعود بالنفع فقط على نخبة ضيقة و متـنفذة عبر السماح لهم بالحصول على الأموال و المزايا و تقديمِ مصالحِ أصدقائهم و أسرهم و زملائهم في الجريمة.
لقد حرموا بأفعالهم هذه ،غالبية أبناء شعبهم من فرصة المشاركة في ثروات بلادهم و النهوض من الفقر. يمثلُ الفقرُ حاجزاً في طريق تحسين قطاعات التعليم و الصحة و النظافة العامة، كما يغلق الطريق أمام الاستثمارالذي من شأنه توفير فرص عمل و يمنع كذلك تطوير المؤسسات التي يمكن لصوت الشعب أن يزدهـر من خلالها.
تم تصنيف ليبيا في المرتبة 170 من أصل 175 دولة في التقرير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2016. يـُـظـهِـرُ التقريرُ بأنّ الفساد هو ظاهرة ممنجهة في الكثيــر من الدول و لا يقـتــصر فقط على ليبيا.
لوضع الإحصائيات في سياقها، نصّ التقرير على التالي: “الدول التي احتلت المراتب الدنيا في تقريرنا ينتـشر فيها انعدام الثقة و سوء الآداء في القطاعات العمومية كالشرطة و القضاء. و حتى في الحالات التي توجد فيها قوانين على الورق، عملياً ، غالباً ما يتم الألتفاف حولها أو تجاهلها. في تلك البلدان، عادةً ما يواجه الأشخاص مواقف تتطلب تقديم رشوة أو تُعرِّضهم للإبتزاز أو تضطرهم للاعتماد على خدمات أساسية رديئة بسبب سوء التمويل، و كذلك مواجهة لامبالاة المسؤولين عند محاولة الاحتكام إلى السلطات المختصة.”
ما مدى انطباق هذا الكلام على ليبيا؟ من الصعب قياس ذلك. لكن التقرير الصادر عن ديوان المحاسبة في عام 2016 نصّ على أنّ هذه الظاهرة منتشرة على نطاق واسع في كل أنحاء البلاد.
قام ديوان المحاسبة بتحديد الانتهاكات في العمليات المصرفية و التجاوزات في إصدار رسائل الاعتماد و سوء استخدام بطاقات الإئتمان و الصكوك المصدقة و التحويلات من الحسابات الحكومية إلى حسابات خاصة. كل هذه العوامل تحـدُّ من النمو. تقرير البنك الدولي حول سهولة مزاولة الأنشطة الاقتصادية وضعَ ليبيا في المرتبة 185 من أصل 190 دولة.
الجريمة تمثل كذلك مشكلةً كبيرة. أحد أشهر ألجرائم هو تهريب الوقود المدعوم. فالليبيون يتمتعون بأرخص وقود في العالم بفضل دعم حكومي بلغت قيمته حتى الآن في هذا العام فقط 4.3 مليار د.ل. لكن معظم هذا الوقود يتم تهريبه خارج البلاد عبر مراكب و شاحنات ليتم بيعه في أماكن أخرى من أجل الربح. هذا يعني بأن جزء كبير من ميزانية ليبيا الخاصة بالدعم يتم صرفها لفائدة الجريمة المنظمة.
تشكلُ اللامبالاة كذلك جزءاً من الصورة القاتمة للوضع الاقتصادي. في الأشهر الأخيرة عانى الليبيون من انقطاعات في إمدادات الكهرباء و الماء. في مجال الطاقة، فإن القدرة على توليد الكهرباء تقل كثيراً عن معدل الطلب عليها. لهذا السبب، فإن الشبكة لا يمكنها مجاراة الارتفاع في الطلب عندما يصبح الطقس حاراً في منتصف الصيف أو بارداً في الشتاء.
يوجد الوضع ذاته فيما يخص إمدادات المياه: فليـبيا ليس لديها أنهارٌ دائمة و تعتمد على النهر الصناعي العظيم و محطات التحلية. معظم الشبكة تعاني من التسرب و الاهتراء. و هنا كذلك فإن معدل الطلب يفوق العرض.
الكثير من المياه و الكهرباء يتم إضاعتها بسبب سوء الاستعمال. كما هو الحال في بلدانٍ أخرى، فإنّ المستهلكين يمكن حثهم على الترشيد في الاستعمال: يكون ذلك بإطفاء أجهزة التكييف عندما يكونون خارج المنزل، أو ضبط درجة الحرارة على درجات معقولة و ليست مرتفعة و كذلك عدم رش المياه على الرصيف خارج المنزل.
حل هذه المشاكل يكمن في الحكم الرشيد و الشفافية و حكم القانون: عبر بناء حكومة قوية و مؤسسات يمكنها مواجهة هذه المشاكل و توفير الخدمات الجيدة التي يستحقها الناس، و كذلك من خلال تقارير المحاسبة و التحقيقات الصحفية المستقلة و النقاشات المفتوحة التي تكشف ممارسات الفساد و الأفراد المتورطين فيها ، و نظام انتخابي يسمح بمقاضاة المتهمين بالفساد ، و في حالة ثبوت الاتهامات ، يتم فصلهم من الوظيفة.
بإمكان ليبيا العودة إلى وضعها كدولة مستقرة و غنية يتم فيها تقديم التعليم و الرعاية الصحية و الأمن للجميع. لكنّ الاقتصاد يمـرّ بأزمة. مواجهة الفساد و الجريمة و اللامبالاة يجب أن يكون في صميم رؤية و برنامج أي حكومة مستقبلية.