3 March 2016 Tripoli, Libya
أمةٌ في أطلالها
في أحد الأسابيع الماضية، قام مراسل من قناة البي بي سي بزيارة مدينة لبدة الكبرى، والتي تقع على الساحل الشرقي من مدينة طرابلس. تحوي مدينة لبدة على بقايا أكبر مدن الإمبراطورية الرومانية وأكثرها جمالاً، بمعالمها الأثرية المذهلة، ومينائها البحري، وأسواقها وأحيائها السكنية.
تضّمن تقرير المراسل، مشهداً لرجلٍ مُسن، يقف وحيداً لحماية هذه الآثار. يواصل هذا الرجل في حمايتها بالرغم من الصراع المستمر، وانعدام الُسياح، وتهديدات داعش، ويحمل بندقية قديمة ليدافع بها عن هذا المعلم الأثري.
لماذا يستمر هذا الرجل في حماية هذا الموقع؟ هل لأنه يتحصل على مرتب مقابل هذا العمل؟ على الأرجح لا، فيوجد هناك العديد ممن يتقاضون الرواتب ولكنهم لا يباشرون أعمالهم. لعل السبب هو أن مدينة لبدة الكبرى تعتبرمن أشهر المواقع التاريخية وجُزءٌ من الهوية الليبية التي تجسد عبق ورموز التاريخ الليبي.
إن الآثار، بالتأكيد، تُعد جُزءاً الهوية الوطنية. الإهرامات في مصر والبتراء في الأردن، والأكروبوليس في أثينا: جميعها تروي قصصاً من ماضٍ مجيد. هذا التاريخ يُدرَّس في المدارس ويُنمّي الشعور بالوطنية والطموح للعلى في المستقبل.
في بريطانيا، نصب ستونهنج، وهو عبارة عن أحجار موضوعة بشكل دائري تعود إلى أربعة آلاف سنة، والتي تُبرهن التقدم العلمي لأسلافنا وقدرتهم على نقل أحجارٍ ضخمة لمئات الأميال ونصبها في نمطٍ معقد يكون مطابقاً لحركة دوران الشمس، هذا أيضاً يُمثل مصدر فخر وطني.
إن المعالم الأثرية مثل لبدة الكبرى تواجه التهديد حالياً، جراء تواجد داعش في أجزاء متعددة من ليبيا. في الأسبوع الماضي حاول داعش السيطرة على مدينة صبراتة التاريخية، ولكن سكانها الليبيون، توّحدوا لمقاتلتهم وصدهم والدفاع عن المدينة وآثارها ومعالمها.
لقد أظهر تنظيم داعش بأنه لا يملك اعتباراً للتاريخ القديم أو التراث الثقافي. ففي سوريا، بالإضافة إلى تدمير معبد” بعل شمين ” في مدينة تدمر والذي ناهز عمره الألفي عام، فقد قتلوا عالم الآثار البالغ من العمر82 عاماً، والذي كرّس حياته لاستكشاف وفهم هذا المعلم.
وفقا لمنظمة اليونسكو: “التدمير الممنهج للمعالم الأثرية التي تجسد التنوع الثقافي السوري، يكشف عن النوايا الحقيقية وراء هذه الهجمات، وهي حرمان الشعب السوري من معرفتها، وهويتها وتاريخها”.
لعل حارس مدينة لبدة الكبرى، يريد منع مثل هذه الأفعال الهمجية. هناك دافع محتمل آخر، وهو أن لهذه الآثار قيمةٌ اقتصادية أيضاً، فالسُّياح يُحبون التجوّل عبر الأحجار العتيقة والتقاط الصور للمعابد والأعمدة القديمة. يمكن أن تكون الآثار أيضاً مصدر لفرص العمل ومكاناً يتم فيه تجارة الحرف اليدوية المحلية.
آمل حقاً ألاّ يسمح الليبيون لتشدد وإجرام داعش بتدمير التراث الثقافي في ليبيا والذي يعود لآلاف السنين. العديد من المواقع الأثرية المنتشرة في انحاء البلاد، سواء كانت رومانية أو إغريقية، تُمثل مصدر فخرٍ واعتزاز لليبيين الذين التقيت بهم. هُم أيضا قلقون مما قد يفعله تنظيم داعش إذا سنحت لهم الفرصة بالإقتراب منها.
من المتوقع أن يقول العديد أن سلامة البشر أكثر أهمية من الحجارة القديمة: أي أنه يجب أن تكون الأولوية مُوجهة لآلاف الليبيين الذين نزحوا وأُجبروا على العيش في المدارس أو مراكز الإيواء المُؤقتة.
هذا صحيح بالتأكيد، فلا أحد يتوقع من حكومة الوفاق الوطني أن تجعل من حماية الآثار أهم أولوياتها في أول مئة يوم من مباشرة أعمالها. تعزيز الوضع الأمني للناس وتحسين خدمات الكهرباء والنهوض بالاقتصاد جميعها لها الأحقية بأن تكون من الأولويات.
لكن، حماية التراث الليبي باعتباره رمزاً لتاريخ الوطن، يمكن أن يساهم في توحيد البلاد وإحياء شعور الفخر بالهوية الليبية.
لذلك، آمل أن يتم تقدير هذا الحارس الوفيّ في لبدة، وضمان أن ُيكافأ كما يستحق على مجهوداته، وأن تكون لديه المُعدات اللازمة لمواصلة حماية هذا المعلم. فأمةٌ آمنةٌ سليمة خيرٌ من أمةٍ استحالت أطلالاً.