18 July 2017 Jerusalem, Israel
يومي الأخير في القدس
اليوم هو آخر يومٍ لي كالقنصل البريطاني العام في القدس، حيث وصلت للمدينة في شهر كانون الثاني من عام 2014، في منتصف فترة المفاوضات التي قادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، السيد جون كيري، بإلتزام وطاقةٍ كبيرتين، وها أنا اليوم أغادر وزملائي الأمريكيين يعملون على إعادة إحياء المفاوضات. أمل بنجاح هذه المفاوضات بقيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ومن المؤكد أنهم سيحصلون على دعم حكومتي في هذا السياق.
ولقد كانت من دواعي سروري – وبالرغم من الصعوبات والتحديات – أن أعمل وأعيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة لمدة ثلاث سنواتٍ ونصف، حيث كانت لي الشرف إن أرى جميع زاوية الأراضي الفلسطينية المحتلة، من مدينة جنين إلى تلال الخليل الجنوبية، من بيت حانون إلى رفح وكل شيءٍ يقع بينهما. وفعلت كل ذلك من مقري في مدينة القدس، وهي إشارة تؤكد إيمان حكومتي بأن الدولتين – الفلسطينية والاسرائيلية – ستحظيان وفي يومٍ من الأيام بعاصمةٍ لهما في هذه المدينة.
وكما كان من دواعي سروري أيضاً أن ألتقي بفلسطينيين من مختلف المجالات. فقد التقيت بقادة فلسطينيين يعملون من أجل إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ لشعبهم، والتقيت أيضاً بشباب فلسطينيين يطمحون إلى أن يصبحوا قادة المستقبل. والتقيت بصيادين فلسطينيين في مدينة غزة يواجهون التحديات لكسب قوتهم اليومي والتقيت أيضاً برجال أعمال ناجحين يعملون على مشاريع ملهمة. فللإشخاص الذين التقيتهم الفضل في جعل فترة وجودي في القدس مليئة بالذكريات الجميلة.
وبينما كنت أعيش هنا، اتيحت لي الفرصة لقطفت الزيتون مع مزارعين فلسطينيين من مناطق مهمشةٍ في الضفة الغربية كجزءٍ من المشاريع التي تنفذها الحكومة البريطانية في دعم المجتمعات الفلسطينية، ولعبت كرة القدم مع فتياتٍ وفتيانٍ من مدينة القدس ومدينة غزة كجزء من مشروعٍ يهدف لدعم الشباب المهمش. وقد حضرت بعض الفعاليات الثقافية البارزة مثل فعاليات الاحتفال بيوم المرأة العالمي والذي نظمه في السنتين الأخيرتين زملائي في القنصلية البريطانية العامة وبالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، للاحتفال بإنجازات نساء فلسطينيات ملهمات. وإنني أتذكر وبشكل واضحٍ شعور الأمل الذي انتباني بعد رؤية مشروع مدينة روابي الضخم للمرة الأولى.
حيث أثبتت لي كل هذه التجارب مراراً وتكراراً بأن الفلسطينيين هم رياديين ومبدعين واذكياء، وأظهرت لي ايضاً بأن للشعب الفلسطيني إمكانياتٍ هائلة.
ولكن في نفس الوقت، رأيت الجانب الآخر من حياة الفلسطينيين، فقد كنت شاهداً على الحرب على قطاع غزة في عام 2014 والتي شهدت مقتل أكثر من 2300 شخصاً من الجانبين، ومن بينهم مقتل أكثر من 1450 مدنياً فلسطينياً و550 طفلاً فلسطينياً وفقاً لأرقام الأمم المتحدة، ومقتل 5 مدنيين إسرائيليين، ومما يزيد الأمور سوءاً استمرار الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولقد شاهدت أيضاً خلال هذه الفترة طفراتٍ كبيرةٍ في أعمال العنف والتي أدت إلى مقتل العشرات من الطرفين. العنف ليس السبيل للفلسطينيين لتحقيق أهدافهم، فإنني على اعتقاداً راسخاً بأن الدولة الفلسطينية ستحقق فقط من خلال المفاوضات. ونعتبر الهجمات في القدس وغيرها من المناطق، خصوصاً تلك التي حصلت في خريف عام 2015، غير مقبولةٍ. ولكن في نفس الوقت ندرك بأن العنف الممارس بواسطة إسرائيل ضد الفلسطينيين غير مقبولٍ أيضاً. فبعد إحراق عائلة الدوابشة في قرية دوما في شهر تموز 2015، زرت القرية وشهدت الأثار المروعة التي نتجت عن هذا العمل الإرهابي الرهيب. وخلال فترة وجودي هنا، تم توثيق أكثر من 715 حالة عنف من المستوطنين ضد الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكما رأيت وصُدمت من الوتيرة المتزايدة في بناء المستوطنات الإسرائيلية الغير القانونية وفي مصادرة الأراضي وفي هدم الممتلكات الخاصة للفلسطينيين، فخلال مكوثي هنا، تم هدم أكثر من 2490 منشأة وتم قتل أكثر من 2618 فلسطينياً من قبل القوات الاسرائيلية والمستوطنين، وبالمقابل قتل 130 إسرائيلياً من قبل الفلسطينيون. وبالإضافة إلى ذلك وللمرة الأولى منذ عقود، تم الإعلان عن بناء مستوطنة جديدة.
ولكن الأهم من الأرقام والإحصائيات هو التأثير الشخصي للاحتلال على حياة الفلسطينيين. فللاحتلال تأثير مؤلمٌ وغير إنساني. وصدمتُ بهذه الحقيقة عندما زرت البلدة القديمة في الخليل لأول مرة ورأيت تأثير المستوطنات والعنف الذي يمارسه المستوطنين والقيود المفروضة على حرية التنقل المفروضة على حياة الفلسطينيين الذين يعيشون هناك.
وقبل أسابيع قليلةٍ كانت الذكرى الخمسون للاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية – بما فيها القدس الشرقية – وقطاع غزة، وقمنا في القنصلية بتذكر هذه الذكرى عن طريق إعادة النظر والتعرف على تأثير المستوطنات الاسرائيلية وعنف المستوطنين والجدار الفاصل على حياة الفلسطينيين. تُذكرنا هذه الذكرى بأهمية عمل الجميع على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وآمنة.
وستستمر المملكة المتحدة بلعب دورها لتحقيق هذا الهدف، من خلال: أولاً، الاستمرار بالضغط على كلا الطرفين لاتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق الرؤية الأمثل لإنهاء الصراع وهي حل الدولتين والتي من خلاله سنشهد خلق دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة جنباً إلى جنب مع دولة اسرائيلية آمنة، والقدس عاصمةً مشتركة وحل عادل وواقعي لقضية اللاجئين الفلسطينيين. وما زلنا نعتبر المستوطنات الاسرائيلية غير شرعيةٍ بموجب القانون الدولي وتعتبر عائقاً لتحقيق السلام.
وثانياً، قمنا نحن في الحكومة البريطانية باستثمار قدرٍ كبيرٍ من الموارد المختلفة كالمال والوقت والموارد البشرية لدعم وتمكين الفلسطينيين. حيث تساهم المملكة البريطانية بحوالي 100 مليون دولار أمريكي سنوياً لدعم أنظمة الصحة والتعليم الفلسطينيية، ودعم اللاجئين الفلسطينيين، وبالإضافة إلى تقديم المساعدات القانونية للفلسطينيين المتضررين من الاحتلال الاسرائيلي. ونفتخر بتقديم هذا الدعم لأننا نؤمن حقاً بأن إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ هو في مصلحة الجميع.
وبصفتي القنصل البريطاني العام كان من دواعي سروري الكتابة في صفحات جريدة القدس المرموقة مراتٍ عديدة. وبالرغم من سهولة الشعور بخيبة الأمل في ظل الوضع الراهن، الا أنني ما زلت أؤمن بالآمال التي عبّرت عنها في كل هذه المقالات التي كتبتها. فما زلت أؤمن بأن السلام ضروريٌ من أجل الفلسطينيين والاسرائيلين على حد سواء، وما زلت ملتزماً بإنه يجب عدم إهمال المناطق المصنفة “ج” في الضفة الغربية وعدم إهمال قطاع غزة أيضاً، وما زلت أشدد على أهمية مدينة الخليل والحفاظ على التواجد الفلسطيني في مدينة القدس أيضاً.
وها أنا أغادر وكلي أملٌ بأن يتمكن الفلسطينيون من تحقيق استقلالهم. إنني أؤمن بأن للفلسطينيين الحق في تقرير مصيرهم وآمل أن أرى ذلك يتحقق. وفي الوقت نفسه، أعلم جيداً بأن علينا متابعة العمل لتطوير علاقاتٍ وثيقة ما بين الشعبين البريطاني والفلسطيني.
–
كل الاحترام لسعادة السفير د. الستير ماكفيل لايمانه ودعمه لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ونتمنى له النجاح في مهماته المستقبلية